كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: يؤخذ بأهل الجنة ذات اليمين وبأهل النار ذات الشمال {مَا أصحاب المشئمة} أي أيُّ شيء هم؟ وهو تعجيب من حالهم بالشقاء {والسابقون} مبتدأ {السابقون} خبره تقديره السابقون إلى الخيرات السابقون إلى الجنات.
وقيل: الثاني تأكيد للأول والخبر {أُوْلَئِكَ المقربون} والأول أوجه {فِي جنات النعيم} أي هم في جنات النعيم {ثُلَّةٌ مّنَ الأولين وَقَلِيلٌ مّنَ الآخرين} أي هم ثلة، والثلة الأمة من الناس الكثيرة، والمعنى أن المسابقين كثير من الأولين وهم الأمم من لدن آدم إلى نبينا محمد عليهما السلام، وقليل من الآخرين وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: من الأولين من متقدمي هذه الأمة، ومن الآخرين من متأخريها.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «الثلتان جميعًا من أمتي».
{على سُرُرٍ} جمع سرير ككثيب وكثب {مَّوْضُونَةٍ} مرمولة ومنسوجة بالذهب مشبكة بالدر والياقوت {مُتَّكِئِينَ} حال من الضمير في {على} وهو العامل فيها أي استقروا عليها متكئين {عَلَيْهَا متقابلين} ينظر بعضهم في وجوه بعض ولا ينظر بعضهم في أقفاء بعض، وصفوا بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق وصفاء المودة و{متقابلين} حال أيضًا {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ} يخدمهم {ولدان} غلمان جمع وليد {مُّخَلَّدُونَ} مبقّون أبدًا على شكل الولدان لا يتحولون عنه.
وقيل: مقرّطون والخلدة القرط.
قيل: هم أولاد أهل الدنيا لم تكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيئات فيعاقبوا عليها، وفي الحديث: «أولاد الكفار خدام أهل الجنة» {بِأَكْوَابٍ} جمع كوب وهي آنية لا عروة لها ولا خرطوم {وَأَبَارِيقَ} جمع إبريق وهو ماله خرطوم وعروة {وَكَأْسٍ} وقدح فيه شراب وإن لم يكن فيه شراب فليس بكأس {مّن مَّعِينٍ} من خمر تجري من العيون {لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} أي بسببها وحقيقته لا يصدر صداعهم عنها أو لا يفرقون عنها {وَلاَ يُنزِفُونَ} ولا يسكرون.
نزف الرجل ذهب عقله بالسكر.
{وَلاَ يُنزِفُونَ} بكسر الزاي: كوفي أي لا ينفد شرابهم.
يقال: أنزف القوم إذا فني شرابهم {وفاكهة مّمَّا يَتَخَيَّرُونَ} يأخذون خيره وأفضله.
{وَلَحْمِ طَيْرٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ} يتمنون {وَحُورٌ} جمع حوراء {عِينٌ} جمع عيناء أي وفيها حور عين أو ولهم حور عين، ويجوز أن يكون عطفًا على {ولدان} {وَحُورٌ}: يزيد وحمزة وعلي عطفًا على {جنات النعيم} كأنه قال: هم في جنات النعيم وفاكهة ولحم وحورٍ {كأمثال اللؤلؤ} في الصفاء والنقاء {المكنون} المصون.
وقال الزجاج: كأمثال الدر حين يخرج من صدفه لم يغيره الزمان واختلاف أحوال الاستعمال {جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} جزاء مفعول له أي يفعل بهم ذلك كله لجزاء أعمالهم أو مصدر أي يجزون جزاء.
{لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا} في الجنة {لَغْوًا} باطلًا {وَلاَ تَأْثِيمًا} هذيانًا {إِلاَّ قِيلًا سلاما سلاما} إلا قولا ذا سلامة.
والاستثناء منقطع و{سَلاَمًا} بدل من {قِيلًا} أو مفعول به لـ: {قِيلًا} أي لا يسمعون فيها إلا أن يقولوا سلامًا سلامًا.
والمعنى أنهم يفشون السلام بينهم فيسلمون سلامًا بعد سلام {وأصحاب اليمين مَا أصحاب اليمين في سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} السدر شجر النبق والمخضود الذي لا شوك له كأنما خضد شوكه {وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} الطلح شجر الموز والمنضود الذي نضد بالحمل من أسفله إلى أعلاه فليست له ساق بارزة {وَظِلّ مَّمْدُودٍ} ممتد منبسط كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس {وَمَاءٍ مَّسْكُوبٍ} جار بلا حد ولا خد أي يجري على الأرض في غير أخدود {وفاكهة كَثِيرَةٍ} أي كثيرة الأجناس {لاَّ مَقْطُوعَةٍ} لا تنقطع في بعض الأوقات كفواكه الدنيا بل هي دائمة {وَلاَ مَمْنُوعَةٍ} لا تمنع عن متناولها بوجه.
وقيل: لا مقطوعة بالأزمان ولا ممنوعة بالأثمان {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} رفيعة القدر أو نضدت حتى ارتفعت أو مرفوعة على الأسرة.
وقيل: هي النساء لأن المرأة يكنى عنها بالفراش مرفوعة على الأرائك قال الله تعالى: {هُمْ وأزواجهم في ظلال عَلَى الأرائك مُتَّكِئُونَ} [يس: 56].
ويدل عليه قوله.
{إِنَّا أنشأناهن إِنشَاء} ابتدأنا خلقهن ابتداء من غير ولادة، فإما أن يراد اللاتي ابتدىء انشاؤهن أو اللاتي أعيد انشاؤهن، وعلى غير هذا التأويل أضمر لهن لأن ذكر الفرش وهي المضاجع دل عليهن {فجعلناهن أبكارا} عذارى كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارًا {عُرُبًا} {عرْبًا} حمزة وخلف ويحيى وحماد جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل {أَتْرَابًا} مستويات في السن بنات ثلاث وثلاثين وأزواجهن كذلك، واللام في {لأصحاب اليمين} من صلة {أَنشَأْنَا} {ثُلَّةٌ} أي أصحاب اليمين ثلة {مّنَ الأولين وَثُلَّةٌ مّنَ الآخرين} فإن قلت: كيف قال قبل هذا {وَقِيلَ مَنْ الآخرين} ثم قال هنا {وَثُلَّةٌ مّنَ الآخرين}؟ قلت: ذاك في السابقين وهذا في أصحاب اليمين، وأنهم يتكاثرون من الأولين والآخرين جميعًا.
وعن الحسن: سابقوا الأمم أكثر من سابقي أمتنا، وتابعوا الأُمم مثل تابعي هذه الأمة.
{وأصحاب الشمال مَا أصحاب الشمال} الشمال والمشأمة واحدة {فِى سَمُومٍ} في حر نار ينفذ في المسام {وَحَمِيمٍ} وماء حار متناهي الحرارة {وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ} من دخان أسود {لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ} نفي لصفتي الظل عنه يريد أنه ظل ولكن لا كسائر الظلال سماه ظلا، ثم نفى عنه برد الظل وروحه ونفعه من يأوي إليه من أذى الحر وذلك كرمه ليمحق ما في مدلول الظل من الاسترواح إليه، والمعنى أنه ظل حار ضار {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ} أي في الدنيا {مُتْرَفِينَ} منعمين فمنعهم ذلك من الانزجار وشغلهم عن الاعتبار {وَكَانُواْ يُصِرُّونَ} يداومون {عَلَى الحنث العظيم} أي على الذنب العظيم أو على الشرك لأنه نقض عهد الميثاق، والحنث نقض العهد المؤكد باليمين أو الكفر بالبعث بدليل قوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} [النحل: 38] {وَكَانُواْ يِقولونَ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وعظاما أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ} تقديره: أنبعث إذا متنا؟ وهو العامل في الظرف، وجاز حذفه إذ {مَّبْعُوثُونَ} يدل عليه، ولا يعمل فيه {مَّبْعُوثُونَ} لأن (أن) والاستفهام يمنعان أن يعمل ما بعدهما فيما قبلهما {أَوَ ءابَاؤُنَا الأولون} دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف وحسن العطف على المضمر في {لَمَبْعُوثُونَ} من غير توكيد بـ: (نحن) للفاصل الذي هو الهمزة كما حسن في قوله: {مَا أَشْرَكْنَا وَلآ ءَابَآؤُنَا} [الأنعام: 148] لفصل لا المؤكدة للنفي.
{أَوَ ءابَاؤُنَا} مدني وشامي.
{قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين لَمَجْمُوعُونَ إلى ميقات يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} إلى ما وقتت به الدنيا من يوم معلوم، والإضافة بمعنى (من) كخاتم فضة، والميقات ما وقت به الشيء أي حد ومنه مواقيت الإحرام وهي الحدود التي لا يجاوزها من يريد دخول مكة إلا محرمًا {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضالون} عن الهدى {المكذبون} بالبعث وهم أهل مكة ومن في مثل حالهم {لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ} (من) لابتداء الغاية {مّن زَقُّومٍ} (من) لبيان الشجر {فَمَالِئَونَ مِنْهَا البطون فشاربون عَلَيْهِ مِنَ الحميم} أنث ضمير الشجر على المعنى وذكره على اللفظ في منها وعليه.
{فشاربون شُرْبَ} بضم الشين: مدني وعاصم وحمزة وسهل، وبفتح الشين: غيرهم وهما مصدران {الهيم} هي إبل عطاش لا تروى جمع أهيم وهيماء، والمعنى أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرهم إلى أكل الزقوم الذي هو كالمهل، فإذا ملئوا منه البطون سلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم فيشربونه شرب الهيم.
وإنما صح عطف الشاربين على الشاربين وهما لذوات متفقة وصفتان متفقتان لأن كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة، وقطع الأمعاء أمر عجيب وشربهم له على ذلك كما يشرب الهيم الماء أمر عجيب أيضًا فكانتا صفتين مختلفتين {هذا نُزُلُهُمْ} هو الرزق الذي يعد للناس تكرمة له {يَوْمِ الدين} يوم الجزاء {نَحْنُ خلقناكم فَلَوْلاَ} فهلا {تُصَدّقُونَ} تحضيض على التصديق فكأنهم مكذبون به، وإما بالبعث لأن من خلق أولًا لم يمتنع عليه أن يخلق ثانيًا.
{أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ} ما تمنونه أي تقذفونه في الأرحام من النطف {ءأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ} تقدرونه وتصورونه وتجعلونه بشرًا سويًا {أَم نَحْنُ الخالقون نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت} تقديرًا قسمناه عليكم قسمة الأرزاق على اختلاف وتفاوت كما تقتضيه مشيئتنا فاختلفت أعماركم من قصير وطويل ومتوسط {قَدَّرْنَآ} بالتخفيف: مكي سبقته بالشيء إذا أعجزته عنه وغلبته عليه، فمعنى قوله: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ على أَن نُّبَدّلَ أمثالكم} إنا قادرون على ذلك لا تغلبوننا عليه.
و {أمثالكم} جمع مثل أي على أن نبدل منكم ومكانكم أشباهكم من الخلق {وَنُنشِئَكُمْ في مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وعلى أن ننشئكم في خلق لا تعلمونها وما عهدتم بمثلها يعني أنا نقدر على الأمرين جميعًا: على خلق ما يماثلكم وما لا يماثلكم، فكيف نعجز عن إعادتكم؟ ويجوز أن يكون {أمثالكم} جمع مثل أي على أن نبدل ونغير صفاتكم التي أنتم عليها في خلقكم وأخلاقكم وننشئكم في صفات لا تعلمونها {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى} {النشاءة} مكي وأبو عمرو {فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ} أن من قدر على شيء مرة لم يمتنع عليه ثانيًا، وفيه دليل صحة القياس حيث جهلهم في ترك قياس النشأة الأخرى على الأولى.
{أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} ما تحرثونه من الطعام أي تثيرون الأرض وتلقون فيها البذر {ءأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ} تنبتونه وتردونه نباتًا {أَمْ نَحْنُ الزرعون} المنبتون وفي الحديث: «لا يقولن أحدكم زرعت وليقل حرثت» {لَّوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حطاما} هشيمًا متكسرًا قبل إدراكه {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} تعجبون أو تندمون على تعبكم فيه وإنفاقكم عليه، أو على ما اقترفتم من المعاصي التي أصبتم بذلك من أجلها {إِنَّاْ} أي تقولون إنا {أئنا} أبو بكر {لَمُغْرَمُونَ} لملزمون غرامة ما أنفقنا أو مهلكون لهلاك رزقنا من الغرام وهو الهلاك {بَلْ نَحْنُ} قوم {مَحْرُومُونَ} محارفون محدودون لا مجدودون لا حظ لنا ولا بخت لنا ولو كنا مجدودين لما جرى علينا هذا.
{أَفَرَءيْتُمُ الماء الذي تَشْرَبُونَ} أي الماء العذب الصالح للشرب {ءأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن} السحاب الأبيض وهو أعذب ماء {أَمْ نَحْنُ المنزلون} بقدرتنا {لَوْ نَشَاء جعلناه أُجَاجًا} ملحًا أو مرًا لا يقدر على شربه {فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ} فهلا تشكرون.
ودخلت اللام على جواب لو في قوله: {لَجَعَلْنَاهُ حطاما} ونزعت منه هنا، لأن (لو) لما كانت داخلة على جملتين معلقة ثانيتهما بالأولى تعلق الجزاء بالشرط ولم تكن مخلصة الشرط كـ: (أن) ولا عاملة مثلها وإنما سرى فيها معنى الشرط اتفاقًا من حيث إفادتها في مضموني جملتيها، أن الثاني امتنع لامتناع الأول افتقرت في جوابها إلى ما ينصب علمًا على هذا التعلق، فزيدت هذه اللام لتكون علمًا على ذلك، ولما شهر موقعه لم يبال بإسقاطه عن اللفظ لعلم كل أحد به وتساوي حالي حذفه وإثباته، على أن تقدم ذكرها والمسافة قصيرة مغنٍ عن ذكرها ثانية، ولأن هذه اللام تفيد معنى التأكيد لا محالة فأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب للدلالة على أن المطعوم مقدم على أمر المشروب، وأن الوعيد بفقده أشد وأصعب من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعًا للمطعوم، ولهذا قدمت آية المطعوم على آية المشروب.
{أَفَرَءيْتُمُ النار التي تُورُونَ} تقدحونها وتستخرجونها من الزناد، والعرب تقدح بعودين تحك أحدهما على الآخر ويسمون الأعلى الزند والأسفل الزندة شبهوهما بالفحل والطروقة {ءأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا} التي منها الزناد {أَم نَحْنُ المنشئون} الخالقون لها ابتداء {نَحْنُ جعلناها} أي النار {تَذْكِرَةٌ} تذكيرًا لنار جهنم حيث علقنا بها أسباب المعاش وعممنا بالحاجة إليها البلوى لتكون حاضرة للناس ينظرون إليها ويذكرون ما أوعدوا به {ومتاعا} ومنفعة {لّلْمُقْوِينَ} للمسافرين النازلين في القواء وهي القفر، أو للذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام من قولهم (أقوت الدار) إذا خلت من ساكنيها.
بدأ بذكر خلق الإنسان فقال: {أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ} لأن النعمة فيه سابقة على جميع النعم، ثم بما فيه قوامه وهو الحب فقال: {أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} ثم بما يعجن به ويشرب عليه وهو الماء، ثم بما يخبز به وهو النار، فحصول الطعام بمجموع الثلاثة ولا يستغني عنه الجسد ما دام حيًا {فَسَبّحْ باسم رَبّكَ} فنزه ربك عما لا يليق به أيها المستمع المستدل، أو أراد بالاسم الذكر أي فسبح بذكر ربك {العظيم} صفة للمضاف أو للمضاف إليه.